July 8, 2012

دولة المؤسسات لا تبدأ بديوان المظالم..


كان مبارك الأب الحنون.. رب البيت الذى يسهر بنفسه على راحة مواطنيه.. فإن جاءته أرملة أمر بصرف معاش "إستثائي" لها.. لم يعيد هيكلة أجهزة الدولة لخدمة كل الأرامل ولكن إختص هذه الأرملة - المحظوظة بلقائه - بهذا الكرم.. هذه دولة مبارك.. دولة الرجل الواحد.. عزبة الكبير يحدد من يستحق ومن لا يستحق.. إذا إحتجت إلى شئ ذهبت إليه ولم تذهب لغيره.. من أسوان إلى الأسكندرية، حلك فى الوصول إلى الكبير.. ولا تستحق الناس إلا ما يستطيع الكبير توفيره من وقته هو الشخصي ومجهوده..


وبالفعل عشنا كمصريين فى أرض ولكن لم يكن بها دولة.. كل منا يوفر لنفسه ما يحتاجه.. فالمناطق العشوائية بها حياة كاملة بكل ما تحتاجه من خدمات.. بها تخطيط ذكي يوفر لمن يقطنها جميع إحتياجاته.. ولكن لم يكن للكبير أى دور فى بناء هذه المجتمعات.. ظهرت وحدها وطورها أهلها بنفسهم.. وفى الصعيد ترك نظام مبارك الأمن للعائلات فلا يوجد للشرطة أثر خارج المراكز والمدن.. وإذا إغتُصب حقك أمضيت سنوات بين أروقة المحاكم حتى لجاء الناس إلى أخذ حقهم بيدهم وإلى الحلول العرفية بعيداً عن نظام الكبير الذى لم يصمم لإستيعابها.. وفى بناء نظامه وزع الكبير المغانم كما يريد.. فيُعين رؤساء الصحف طبقاً لمن يخدمه.. ووزع الأراضي لمن يعطيه النصيب الأكبر.. فهذه حقوقه الشخصية وما تبقى أعطاه لنا كوصي علينا يعطينا عندما يشاء وكيفما يشاء.. حتى أنه إن تحدث إلينا، كلمنا كأننا أطفال لا دراية لنا بما يحدث فى عالمنا.. لم يصارحنا بما يحدث فى بلادنا ونحن نراه بأعيننا.. دولة مبارك لم تكن دولة ولكنها كانت مشروع فردي يسيطر فيها الكبير على كل الأدوار.. لم تكن دولة حقوق ولكن دولة الياناصيب.. كل مواطن وحظه..

وقامت الثورة.. فلم تقم لإستبدال كبير بأخر.. ولكنها قامت لإزالة نظام خائب وشخصي وإستبداله بدولة قائمة على خدمة المجتمع.. دولة أدائها ليس مرتبط بفرد ولكن بنظام كامل لا يختلف بإختلاف الأشخاص.. تُعامل المجتمع كله بنفس الميزان وليس كما يحدد شخص واحد أو شلة من الشركاء يتعاملون معنا من منطلق الوصاية.. لم تقم الثورة حتى تتحول أجهزة النظام إلى خدمة الكبير الجديد يحدد من يستحق ومن لا يستحق ولكن حتى تتحول هذه الأجهزة إلى دولة تعمل لخدمة مواطنيها جميعاً وبالتساوي.. ولذلك فإن دولة المؤسسات لا تبدأ بديوان المظالم.. لا تبدأ بأن يتحول رئيس الجمهورية إلى الكبير الذى يحقق أمآل كل مواطن على حدة.. 

قد يرى البعض إن هذا إجراء مؤقت إحتاجه الرئيس نظراً لعدد المواطنين والفئات التى لجاءت إليه حين تولى الرئاسة فى ظل غياب مؤسسات الدولة.. فلم يجد مخرجاً أخر غير أن يلبي بعض هذه الطلبات.. وقد يقول البعض الأخر أن هذا الديوان هو مقياس يستطيع الرئيس متابعة أداء المؤسسات عن طريقه.. ولكن الحقيقة هى أن الرئيس إتخذ الطريق الأسهل.. نفس الطريق الذى سلكه الكبير السابق.. طريق الأب المسؤل عن مجموعة من الأفواه القاصرة التى لا تكف عن الصراخ..  لم يفكر الرئيس أن يخرج إلينا ويحدثنا كشعب عاقل وبالغ وواعي.. لم يحكي لنا عن تحدياتنا الحقيقية وخطته لتخطيها.. لم يطلب مننا المساعدة أو الصبر فى مقابل أهداف يحققها لنا.. بل تعامل معنا من نفس منطلق الوصاية.. نحن أطفال وهو يحاول إرضائنا.. نفس الخطاب الشعبوي البسيط الذى يهدف إلى بيع شخص الرئيس ولا يعاملنا كأصحاب لهذه الأرض..

وفى نفس الوقت الذى يقدم لنا الرئيس هذه الخطابات الشعبوية الخاوية تسعى جماعته فى مجلس الشورى إلى مد العمل بنظام مبارك فى تعيين رؤساء تحرير الصحف القومية.. حتى يتسنى للكبير وجماعة الأوصياء إختيار ما يصل إلينا من معلومات.. لم يفكر الرئيس أن يخاطب جماعته ويطالبها بإصلاح هذه المنظومة الفاسدة التى تعمل لترسيخ نظام الكبير الذى يخدم أصحاب الحظوظ.. هذه المنظومة التى ترفض بناء المؤسسات المستقلة القادرة على خدمة الجميع لتترك إختياراتها فى يد الكبير وشلته..

ثم تخرج علينا الإخوان بإستعدادها للمشاركة فى إنجاح المائة يوم الأولى حتى نعود إلى دولة المجهودات الفردية وسعة صدر الكبير وجماعته.. يخرجوا علينا الآن حتى يبيعوا لنا الإخوان ورئيسهم فنعشقهم ونقع فى غرامهم "هم فقط".. ضاربين بعرض الحائط حاجتنا لبناء دولة حقيقية وليس نظام الشخص الكريم وشلته.. وكيف أفترض حسن النية وقد إختارت الجماعة ألا تشارك فى حل مشكلاتنا إلا بعد وصول مرشحها للرئاسة؟ أين كنتم السنة ونصف الماضية من هذه المشكلات ولماذا لم تعرضوا علينا مجهوداتكم لإجتياز الأزمات التى مررنا بها؟ هل إحتفظتم بها حتى تسوقوا لنا مرشحكم وجماعتكم؟ كيف يختلف ذلك عن ما قدمه لنا مبارك من هبات على مدار السنين مستبدلاً بناء المؤسسات بأعماله "هو" الخيرية؟

لقد إنتهى عصر الرئيس.. إنتهى عصر الفرد الواحد (أو الفريق) الوصي علينا.. يقرر متى نأخذ حقوقنا وكيف نأخذها.. إنتهى عصر العتمة وبدأ عصر الشفافية.. اخرج علينا يا رئيسنا وتحدث إلينا كبالغين واعيين وقادرين على فهم الأمور.. اخرج علينا وحدثنا كأفراد شعب ذكي إنتخبك بمحض إرادته.. ولا تحدثنا من منطلق أنك ولي علينا تغرقنا بخيراتك أنت وجماعتك.. بل حدثنا كوكيلنا المسؤل عن بناء دولتنا.. اخرج علينا يا رئيس مصر وعندك خطط حقيقية للنهوض ببلدنا.. لا تحاول أن ترجعنا إلى زمن الكبير وجماعته ذوات القلوب الكبيرة.. نحن لا نحتاج إلى عطفك ولكن نحتاج إلى دولة حقيقية تقوم كل مؤسسة فيها بدورها فى خدمتنا "نحن".. فمهما حاولت أنت وجماعتك لن تستطيعوا أن تستوعبوا هذا الشعب بأكمله.. لن تستطيعوا بمجهوداتكم الشخصية أن تحلوا مشاكلنا.. إما أن تبنوا دولة المؤسسات وتُشركونا فى بنائها أو تخرجوا منها خاسئين..

No comments:

Post a Comment