July 16, 2011

الفســــــــــــــــــــــــــــاد

بدأت العمل سنة 1994 وأنا فى السنة الثالثة من الدراسة الجامعية، ففى ذلك السن لم أكن قد تعرضت إلا للحياة الدراسية وإحتكاكات بسيطة مع الحياة العملية من خلال وظائف قصيرة أثناء إجازات الصيف. وكانت البداية فى مجال تصدير الملابس. ففى ذلك الوقت عملت مشرف تصدير فى أحد المصانع وكانت مسؤلياتى تتلخص فى متابعة العمل على خطوط الإنتاج والإشراف على عملية التصدير. فلمست لأول مرة فى حياتى الفساد المتمثل فى الرشاوى التى يطلبها المراقبين من الأجهزة الحكومية على تعيينات العمال من التأمينات والضرائب وإستخدامهم لوسائل الضغط لإبتزاز أصحاب العمل عن طريق تهديدهم بمحاضر المخالفات والتى فى أحيان كثيرة كانت نتيجة للتضارب فى اللوائح وإستحالة الإلتزام بها وهى الثغرات القانونية التى يعلمها جيداً العاملين عليها. ثم تم ترقيتى إلى مدير تصدير ورأيت الفساد فى الجمارك وأجهزة الرقابة على الصادرات وكيفية إستخدامهم للوائح الغامضة التى تنظم إحتساب إستهلاكات المواد الخام للضغط على أصحاب المصانع لدفع الرشاوى. ثم تم ترقيتى ثانياً وأصبحت لى مسؤليات فى الإدارة العامة للمصنع ورأيت كيف يقوم مأمور الضرائب بتقدير ضرائب جزافية ضخمة على المصنع حتى يفاوض صاحب المصنع لتخفيضها مقابل رشوة أو خدمة. ورأيت كيف تقوم أجهزة المدينة فى الضغط أيضاً للحصول على تبرعات من الشركة كانت فى أغلب الوقت تذهب إلى دعم مصروفات زيارات المسؤلين أو مصروفات آخرى تخدم المحافظ أو العاملين معه شخصياً.


ثم تركت العمل بالمصانع عام 1997 وأنا مقتنع أننى قد إكتسبت خبرة كبيرة ورأيت الفساد كما لم يعرفه أحد من قبلى. وإتجهت إلى العمل الإستشارى فى نفس المجال، وطٌلب منى أن أقوم بتقييم أحد المصانع الحكومية (القطاع العام) العاملة فى الغزل والنسيج والملابس. ففوجئت بحجم فساد جديد لم أكن قد تعرضت له. كانت مرتبات المصنع السنوية 35 مليون جنيه وخسارته السنوية 70 مليون جنيه وهذا يعنى أنه إذا تم غلق المصنع والإستمرار فى دفع المرتبات للموظفين والعمال كانت يمكن تقليص الخسارة إلى النصف. لم أكن أفهم كيف يمكن لمصنع أن يخسر ضعف مرتباته حتى بحثت فى التافصيل وعرفت أن العاملين فى الإنتاج يقومون بتصنيف منتجات درجة أولى على أنها درجة ثانية حتى يتم بيعها بأسعار متدنية للتجار مقابل عمولات للموظفين. كما وجدت لديهم مخزون فى الميزانية بقيمة 80 مليون جنيه وعند فحصى له وجدته بالكامل غير صالح للبيع، أى أن قيمته الحقيقية صفر. فقد كانت للمصنع سياسة عدم تخفيض أسعار المخزون وبالتالى لم يكن هناك فرصة لبيع منتجات السنة السابقة وتراكمت المنتجات الغير مباعة من موسم إلى آخر. فلاحظ بعض العاملون وجود كميات من البضائع المهملة من سنوات سابقة لن يتم بيعها، فبدأوا فى إستبدالها بمنتجات تالفة وبيع المخزون لتجار. ثم تتطرقت إلى دراسة الأصول ورأيت أن العديد من أعمال الصيانة التى تتم داخل المصنع تتكلف أضعاف ثمنها الحقيقى وتبين لى أنه يتم تكليف نفس المقاولين لهذه الأعمال وبالطبع يتم إرساء المناقصات عليهم فى مقابل عمولات آخرى. وذلك يتكرر فى قطع الغيار والخامات.. إلخ..

وإستمريت فى العمل فى الإستشارات فى نفس المجال وقد قمت بالعمل مع إحدى غرف المصدرين فى هذا المجال والتى كان أغلب أعضاء مجلس إداراتها من المنتدبين من شركات القطاع العام. فوجدت أن الإتحاد يقوم بتحصيل نسبة من قيمة الصادرات لإستخدامها فى التروييج للمنتج المصرى ولكن كان يتم إيداع الحصيلة السنوية فى ودائع ولا يتم إستخدامها للتسويق ويتم صرف مكافئات من الفوائد لأعضاء مجلس الإدارة عن كل إجتماع بالإضافة إلى مكافاءة سنوية، لدرجة أن إحدى الشركات الخاصة كانت قد أفلست وهرب صاحبها إلى الخارج وإستمر مدير الشركة فى تسديد الإشتراك السنوى للغرفة وتحصيل المكافاءة السنوية التى كانت أضعاف الإشتراك بالرغم من عدم تصدير شركته أية كميات على مدار السنوات السابقة. وكان يتم صرف بدلات لممثل الجهاز المركزى للحسابات من ميزانية الغرفة وبالتالى لم تظهر أية مخالفات فى أداء الغرفة. 

ثم طلب منى تقييم أحد الأجهزة الرقابية والبحثية فى الدولة على هذه الصناعة، وللجهاز نظرياً دور مهم فى التدريب والقياس ومراقبة الصادرات وعمل الأبحاث لتطوير الصناعة والمنتجات وقم تم تجهيزه بأحدث الألآت وصالات التدريب وأجهزة التحليل عند إنشائه. وكان الجهاز يحصل سنوياً ملايين الجنيهات تمثل نسبة من كل صادرات مصر من مجموعة من المنتجات. وكان يقوم على هذا الجهاز مهندس أداره لمدة عشرون عاماً لم يقم فيها الجهاز بعمل أية أبحاث تذكر. عرفت فى ذلك الوقت أن المهندس كانت له نسبة من المبالغ التى يوفرها آخر السنة ولذلك إمتنع المدير عن الإنفاق على الأبحاث حتى تتضخم الحصيلة وبالتالى مكافائته السنوية.

وعلى مدار هذه الرحلة رأيت أنواع الفساد فى الأجهزة الحكومية المختلفة وتصورت أننى بذلك رسمت صورة شبه كاملة للفساد فى مصر. لم أتعرض فيها لفساد القيادات العليا والمناصب السياسية ولكن هذا النوع كان معروف للجميع. ما لم أتخيله فى هو حجم الفساد على المستويات المتوسطة والدنيا من الهيكل الحكومى.

ثم شاء القدر فى 2008 أن أدخل مجال العقارات فى المدينة وليس فى التجمعات السكانية الجديدة. وفوجئت بأن كل ما رأيته فى حياتى العملية ليس إلا القشرة الخارجية وأن حجم الفساد المتفشى فى هذا المجال أضعافه فى الصناعة والتجارة. ما يحدث فى الأحياء والمحليات والشهر العقارى والمصالح الخدمية يفوق ما قد يتخيله أى عقل. لا أستطيع أن أقول إلا أن هؤلاء مصاصين دماء وسفاحين يتفننون فى صياغة اللوائح لإبتزاز الناس وفى تتطويع الثغرات القانونية لخدمتهم ويتحركون كعصابات متخصصة لمحاصرة صاحب المصلحة لإعتصار آخر قطرة لديه.

ثم تعرض المشروع الذى بدأته ومازلت إديره إلى حملة صحفية شعواء لم أعرف فى البداية من أين جاءت حتى عرفت أن خلف هذه الحملة مستأجر فى أحد عقارات المشروع، أراد أن يبتز الشركة لتغيير عقد ايجاره. ولكن ما هالنى ليس الهجوم الوقح من ذلك المستأجر وإنما مجموعة الصحف الصفراء التى إستغلت هذه الحملة لمحاولة إبتزاز الشركة. فتقوم هذه الجرائد بإختذال الإشاعات ومهاجمة الشركة ثم تبعث إلينا بمن ينصحنا بمحاولة التقرب إليهم ونشر إعلانات للشركة فى مقابل الحصول على مقالات إيجابية عن المشروع. ثم بدأ أحد أعضاء مجلس الشعب الصحفيين فى مهاجمة الشركة فى البرلمان والتقدم بطلبات إحاطة عن نشاطها، وجاءت الطامة الكبرى عندما تقرب إلينا هذا البرلمانى وهو عضو المجلس عن الدائرة التى نعمل بها وإقترح علينا أن نتعاقد معه كمستشار إعلامى للشركة وعندما رفضت التعاقد معه فوجئت بإشتعال الحملة من جديد ومن هجوم ممنهج من مجموعة من أعضاء المجلس. ولم يثلج صدرى إلا إلقاء القبض عليه بعد ثبوت تورطه فى معركة الجمل. عند هذا الحد تصورت أننى قد رأيت أقصى ما وصل إليه الفساد فى مجتمعنا، ليس فقط على مستوى المؤسسات ولكن أيضاً الفساد الأخلاقى لهذا المستأجر ولعضو مجلس الشعب. وتخيلت أننى لن أرى أقذر مما رأيت فى هذه السنوات الثلاث.

حتى سنحت لى الفرصة فى الأيام القيلية الماضية أن أعمل مع واحدة من المبادرات التى بدأت بعد الثورة لإصلاح أحد الأجهزة الحكومية. وبدأت فى مطالعة التفاصيل ورأيت بالمستندات كيف أن العاملين بهذا الجهاز سخروا الميزانيات لمصالحهم الشخصية وكيف أنهم إستباحوا لنفسهم ولعائلتهم كل أصول الجهاز لخدمتهم من سيارات وأفراد وإستراحات وميزانيات يحصدها كل فرد فيهم من أصغرهم حتى وزيرهم. وكيف أنهم توحشوا وتعدوا إستغلال ما يتاح لهم من خلال الجهاز وتحولوا إلى الشعب يمتصوا من دمائه بطرق بشعة تفوق بأضعاف مضاعفة ما تغتصبه المحليات من الحقوق. وكيف أنهم دخلوا فى التجارات المحرمة وأخذاوا العمولات على كل مصروفات الجهاز وكيف إستخدموا ميزانيات الجهاز لمكافاءة الفاسدين منهم ومنعوها عن من إستقام.

وبالغرم من عشرات المواقف الآخرى التى تعرضت لها ولم أسردها فإننى قررت أن أتوقف عند هذا الحد حتى لا أطيل فى المقال. 

لا يسطتيع أحد أن يحصر حجم الخسارات التى يتكبدها المصريين سنوياً بسبب الفساد. ما رأيته خلال هذه الرحلة هو أن الفساد إنتشر فى كل الأجهزة الحكومية وإننى لم أعرف جهاز واحد لم تتفشى فيه الرشاوى والسرقة. إتجهت كل الأنظار بعد الثورة إلى رجال الأعمال على أنهم من يسرق المصريين ولكن الحقيقة هى أن من يمتص دماء المصريين يومياً هو كل من يأخذ منهم رشوة أو ينكرهم حقوقهم حتى يدفعوا. هو كل مراقب صحة يبتز بقال أو مهندس حي يضغط على صاحب منزل أو من يزور فى توكيل أو أوراق ملكية. كل من يمنع عن المصريين حقوقهم حتى يدفعون وكل من يسخر الميزانيات المخصصة لهم لخدمة أغراضه. كل ممرضة تعطى خدمة لمن يدفع أكثر أو مهندس يرسى مناقصة على مقاول بدلاً من آخر مقابل عمولة. كل تاجر يحجب سلعة حتى يرتفع سعرها أو موظف فى الجمرك يأخذ رشوة حتى يسمح بدخول منتج منتهى الصلاحية وكل مأمور ضرائب يرتشى حتى يخفض ضرائب ممول. هؤلاء هم المجرمون الحقيقيون.

1 comment:

  1. I agree 100%! You know, there should be an entire blog and facebook page dedicated to exposing corruption. 7aga keda www.EgyCorruptionLeaks.com. Since this cause is very important to you, you should consider this! :)

    ReplyDelete